3666 144 055
[email protected]
لازمت الجريمة البشرية منذ نشأتها وتعرضت لعدة تغيرات مواكبة مع تلك التغيرات التي عرفتها المجتمعات وأخذت تنحو منحنيات معقدة وخطيرة مع التطور الحضاري للمجتمعات والذي صاحبه تطورات اقتصادية وتكنولوجية خاصة مع الثورة المعلوماتية والانفتاح الاقتصادي.
فقد ساهمت العولمة وآلياتها الاقتصادية والتكنولوجية في رسم ملامح الجرائم المعاصرة من حيث طبيعة هذه الجرائم وطبيعة المجرمين والوسائل المستخدمة وطبيعة الضحايا. فامتد مسرحها إلى خارج الحدود الوطنية للدول والى الفضاء السيبراني. ففي سياق عولمة الاقتصاد والتقنية والانفتاح على الأسواق تحققت عولمة الجريمة، فيما عرف بالجريمة المنظمة العابرة للحدود كأحد أبرز الآثار السلبية للعولمة، إذ أصبح المجرمون أكثر قدرة على الحركة، وأكثر استخداماً للتكنولوجيا لتحقيق أهدافهم وتنويع نشاطاتهم وازدهرت الجرائم الإلكترونية وجرائم غسيل الأموال وغيرها من الجرائم.
فالعولمة التكنولوجية انعكست على التنظيمات الإجرامية بحيث أصبحت من أوائل المستفيدين من التقدم التكنولوجي وتوظيفه لخدمة نشاطاتها العابرة للحدود وامتد أثر العولمة حتى على المجرمين أنفسهم فأثرت في اختيارهم للضحايا وفي أساليب ارتكابهم للجريمة وحتى في اتجاهاتهم نحو الجريمة فقد استفادت ممارساتهم من التقدم العلمي والتكنولوجي مما ساهم في عولمة أساليب ارتكابهم للجرائم والتي اختلفت عن الأساليب التقليدية.
كما شكّلت العولمة التكنولوجية تحديات أمام الدول فيما يخص متابعة هذا النوع من الجرائم فبفضل مبتكرات العولمة من تطور علمي و تكنولوجي أصبح ارتكاب هذه الجرائم سهلاً يحتاج إلى متخصصين للتنفيذ فقط، فاستخدام التكنولوجيا سهّل من ارتكاب الجرائم المعلوماتية ومن غسيل الأموال ومن ارتكاب الجرائم الاقتصادية مع سرعة تنفيذها وصعوبة اكتشافها وإثباتها بذات الوقت نتيجة سهولة إخفاء الأدلة المادية لها.
أما العولمة الاقتصادية والمالية فقد أدت إلى إلغاء القيود عليها و تسريع تداول رأس المال غير المشروع وظهور منتجات مالية جديدة سهلت عمليات غسيل الأموال ومحو الحدود. وقد كان لعولمة الشركات المتعددة الجنسيات أثرا كبيراً على عولمة الجريمة المنظمة إذ أن عولمة التنظيمات الإجرامية يتم لنفس أسباب عولمة الشركات المتعددة الجنسيات، فإذا كانت هذه الشركات تمتد بحثا عن عمالة رخيصة وعن استثمارات وعن أسواق تدر أرباحا طائلة فان هذه التنظيمات أيضا عولمت نشاطها لنفس الغرض، إذ تستطيع تجنيد أعضائها اعتمادا على الفئات المهمشة في هذه المجتمعات وتستفيد من سهولة النقل وانفتاح الحدود وقلة الرقابة في بعض البلدان ويمثل السوق العالمي فرصة كبيرة أمام هؤلاء لممارساتهم غير المشروعة.
ونجحت بعض من هذه الشركات في إخفاء مصدر أموالها والتي نجمت عن صفقات مشبوهة وعن التهرب الضريبي واستغلال للعمالة وغيرها من الأعمال المخالفة من خلال عمليات غسل للأموال في مختلف البنوك والأنشطة الاقتصادية عبر العالم وانطلقت في استثمارات كبيرة عابرة للقارات تزيد من فرص ثرائها وربحها مغتنمة في ذلك هشاشة التشريعات والتسهيلات الاستثمارية والضريبية وقلة الرقابة والفساد السائد في بعض البلدان.
وتعتبر الملاذات الضريبية أهم الوسائل التي تستخدمها الشركات المتعددة الجنسيات للتهرب الضريبي، وتعرّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية( (OCDE الملاذ الضريبي بأنه نظام يعفي من تأدية الضرائب أو نظام ضريبي متساهل حيث تقتطع ضرائب بسيطة على العائدات المالية أو على العائدات الناتجة عن نشاط الخدمات، أو ينظر إليه كمكان يوفر لغير المقيمين فيه إمكانية التهرب من دفع الضرائب إلى محل إقامتهم، بالإضافة إلى ذلك يتمتع الملاذ الضريبي بقلة الشفافية أو رفض الإفصاح عن المعلومات اللازمة للسلطات الخارجية أو إمكانية إنشاء مؤسسات وهمية.
كما أن الفساد المالي في أي دولة يؤدي إلى تكوين برجوازية محلية تستثمر تلك الأموال في قطاعات اقتصادية خفية وموازية تسيطر على الاقتصاد الوطني وتشوهه فتهيمن القوى الإجرامية على الأسواق وتختلط الممارسات الشرعية وغير الشرعية والتي تمهّد الطريق لارتكاب الجريمة المنظّمة.
ومع أن العولمة تتيح فرصاً لتقدمٍ بشريٍ غير مسبوق خصوصاً في مجال تعزيز الكفاءة الاقتصادية وتوليد النمو، إلا أنها تغفل تعزيز الأمن البشري، ويتجلى ذلك في فقدان التشريعات الجنائية الوطنية لقوتها الملزمة بتخطي الجريمة حدود الدولة طبقاً لمبدأ إقليمية القوانين، ما يعني استفادة التنظيمات الإجرامية من هذا التعارض بين إقليمية القانون الجنائي وعولمة التطور التكنولوجي والاقتصادي للحد من فعالية الملاحقة الجنائية لأنشطتها.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734